كرم الله الإنسان بالعقل ليتفكر به، رجلين ليمشي بهما وأما الحواس الخمس فهي من وسائل الإدراك لدى الإنسان والكائنات الحية والتي تساعد في التعرف على الأشياء وتصنيفها وفقا لأهميتها لإدراك ما يحصل من حولنا وكيف لنا أن نتفاعل معه، تبرز هنا علاقة لا نقدرها كثيرًا رغم أهميتها، تتجلى هذه العلاقة في أمثلة عدة، مثل ربطك لصوت جرس المدرسة بكل ما يتعلق بها وعنها، فهذه النغمة تكررت لسنوات في أذنيك، مما يثير ذكرياتك عنها وفيما يتعلق بحاسة السمع، أذكر حينما كنا صغار كان أبي يضع منبه بصوت الشيخ أحمد العجمي يتلو فيه آية الكرسي وبعد سنوات عدة بمجرد سماعي لنبرة صوته كنت بالفعل بدأت أستعيد ذكرى بيتنا السابق، وصباح قد اخترقت فيه أشعة الشمس زجاج غرفتنا، كان تماما شعور أني استيقظ من النوم مجددا ولحاسة البصر أيضًا نصيب من هذا، فحين تستخدم أقلام التحديد وترى الرسومات التوضيحية لفكرة معينة أثناء دراستك، قد تتمكن من حل سؤال في الامتحان ليس لأنك تذكرت الإجابة بحد ذاتها، بل لأنك استحضرت شكل الصفحة، ومكان المعلومة، واللون المحدد لذلك السطر الذي يحتوي على الجواب، حتى صورة مقالتي هذه قد تثير في بعضكم إحساسًا بالحنين وبأنه يشتم رائحة عطرة، (هنالك صور تستطيع شمها) على الرغم من أنها جملة تقال على سبيل الفكاهة، لكنها صحيحة تمامًا بطريقة مبهرة، فإذا كانت لحاسة السمع القدرة العظيمة على استحضار لحظات عشتها منذ أكثر من عقد، فإن حاسة الشم تُعتبر الأهم في ارتباطها الوثيق بذكرياتنا وحنيننا إلى الماضي.

لنبدأ أولاً بفهم كيفية قدرتنا على شم الروائح، ويعود الفضل في ذلك إلى العصب الشمي، وهو العصب القحفي الأول (CN 1) اللاإرادي، الذي يتيح لك اكتشاف الروائح والنكهات. تطلق المواد ذات الروائح جزيئات صغيرة، وعند استنشاقها تلتقطها خلايا متخصصة تُعرف بمستقبلات الشم. تقوم هذه المستقبلات بنقل المعلومات إلى الدماغ، مما يسمح لك بإدراك الرائحة.
حاسة الشم هي من أولى الحواس التي تتطور في جسم الجنين وقد تناولت دراسة بعنوان Human Fetal “Olfactory” Learning قدرة الأجنة على التعرف على رائحة الثوم قبل الولادة من خلال النظام الغذائي للأم فعند اختبار الأطفال بعد 20 ساعة من الولادة، أظهرت النتائج أن الأطفال الذين تعرضوا لرائحة الثوم خلال فترة الحمل كانت استجاباتهم مختلفة عن أولئك الذين لم يتعرضوا لها. فقد حاول الأطفال الذين لم يتعرضوا للرائحة تجنبها، بينما لم يظهر الذين تعرضوا لها أي نفور. وهذا يفسر قدرة الجنين على التعرف على رائحة والدته؛ فبمجرد أن يتعرف على رائحتها، يتمكن من توجيه فمه نحو ثديها لبدء الرضاعة.
كما يعتقد العلماء أن الرابط بين الذاكرة وحاسة الشم مميز عن غيره لأن العصب القحفي الأول، وهو أقصر عصب حسي في الجسم، يبدأ في الدماغ وينتهي في الجزء العلوي الداخلي من الأنف، مما يجعله سريعًا للغاية وهذا يسمح للإشارات الشمية بالوصول إلى الجهاز الحوفي في لمح البصر، وهو الجزء المسؤول عن استجاباتنا العاطفية والسلوكية.
وقد أثبتت دراسة أجرتها جامعة روكفلر في نيويورك أن البشر قادرون على تذكر 35٪ مما يشمونه مقارنة بـ 5٪ مما يرونه و 2٪ مما يسمعونه و 1٪ مما يلمسونه.
وبالتالي وبعد معرفتنا كل هذا نستطيع أن نؤكد أن مرحلة الطفولة بشكل خاص هي تلك المرحلة التي تخزن أدمغتنا فيها روائح معينة، وذلك لأنها في الغالب تكون المرة الأولى التي نتعرف فيها على رائحة معينة، فتترسخ في الذاكرة وتكتسب مكانة خاصة. وعندما نشمها مرة أخرى في المستقبل، يتم استحضار الذكريات المرتبطة بها.
كما وجدت دراسة نُشرت في عام 2010 في المجلة الأميركية لعلم النفس أن الذكريات المرتبطة بالروائح تميل إلى أن تكون أكثر إثارة للعواطف. وتعلق الكاتبة كلير جيليسي بأن هذه الذكريات غالبًا ما تكون أقدم وأقل استحضارًا في البال، لكن في الوقت نفسه تظل تلك الروائح قادرة على استدعاء الذكريات كما أن تكون الأكثر قدرة على إثارة مشاعرك.
فعلى سبيل المثال، إذا كنت تستخدم عطرًا معينًا في مناسباتك السعيدة، فإن شمك له في أي مكان لاحقًا قد يثير ذكريات تلك اللحظات السعيدة وبالتالي يشعرك بالسعادة ولهذا السبب غالبًا ما يُقال إن حاسة الشم تستحضر الذكريات بفاعلية، لدرجة أن البعض يشعر كما لو كان يعيش الحدث مجددًا ويختبر نفس المشاعر التي خالجته سابقا.
رائحة طهي أمي الشهي عند عودتي متعبة من المدرسة، عبق العطر الذي يفوح من لباس والدي مهما تم غسله، رائحة التربة بعد تبللها بالمطر، الصلصال الذي صنعته مع أختي من الطحين والماء، ورائحة الياسمين التي كانت تفوح على امتداد شارع بيت جدتي...
كلها روائح تغمرني بالسعادة والحنين إلى طفولتي في آن واحد وأظن أن لكل منكم روائح تثير في نفسه هذه المشاعر فلتحاولوا التفكير بهذا قليلا وستجدون الكثير :)
والحمد لله الذي أكرمنا وأنعم علينا بحاسة الشم.
المصادر:
Introduction to Psychology ch04
لماذا نربط بين الروائح والذكريات القديمة؟
حقائق عن حاسة الشم لديك... قد تجعلك تعيد الاهتمام بها
Human Fetal “Olfactory” Learning Peter G. Hepper Fetal Behaviour Research Centre, School of Psychology, Queen’s University of Belfast,
عبق الذكريات: وهل للذكريات رائحة؟