عندما تشاهد مباراة مباشرة من البرازيل، أو ترتدي قميصاً مصنوعاً في بنجلاديش أو تشتري كرواسون فرنسي من إحدى المخابز في الجوارأو تدردش مع أصدقاء من دول مختلفة حول العالم على منصات التواصل الاجتماعي، تدرك في لحظة صفاء أنك تعيش في عالم صغير رغم كبره، و تفهم بعدها سبب وصف الكثير من العلماء العولمة بكونها ظاهرة حوّلت العالم الكبير لقرية صغيرة.
يمكن تعريف العولمة بكونها ظاهرة تحويل التجربة الإنسانية بتنوعها و مجالاتها من المستوى المحلي إلى المستوى العالمي. أو بأنها العملية التي يتم من خلالها زيادة الترابط في جميع أنحاء العالم على الصعيد الاقتصادي و الثقافي و السياسي و غيرها.
لكن، هل هي ظاهرة جديدة؟ أم أنها نتاج طبيعي لتطور البشرية؟
يعزو البعض ظهور العولمة إلى الثورة الصناعية التي حدثت في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بينما يعتقد آخرون أن لها تاريخًا أطول بكثير. بالنسبة لي، هناك أشياء كثيرة عند أخذها في الحسبان نرى أن العولمة ليست مجرد ظاهرة ظهرت فجأة من العدم في القرن الثامن عشر عندما أصبح الناس قادرين على استخدام الآلات! بل لها تاريخ طويل ودور مهم، ولها أيضًا تفسيرات عديدة تشكل رؤيتنا للحاضر.
ليس من الدقة القول بأن العولمة ظهرت في نقطة تاريخية معينة بينما في الآن ذاته ندرج "التجارة" بين أدوات و تعريفات العولمة. فالتجارة، كما هو معلوم، نشأت من التواصل البشري حتى في عصور ما قبل التاريخ. من الصعب الحديث عن التجارة الدولية هنا، لكن الواضح هو أن التجارة بشكلها البدائي البسيط كانت موجودة بين الجماعات ثم القرى ثم المدن وغيرها، ولعل أبرز مثال على ذلك هو طريق الحرير الذي ربط العالم القديم من الصين إلى أوروبا مروراً بآسيا الوسطى والشرق الأوسط، حيث جلب طريق الحرير إلى الصين العديد من السلع مثل التمر ومسحوق الزعفران وجوز الفستق من بلاد فارس؛ اللبان والعود من الصومال؛ خشب الصندل من الهند ؛ قوارير زجاجية من مصر ، وسلع أخرى مرغوبة من أجزاء أخرى من العالم. هذا من حيث السلع، ولكن.. هناك أشياء أخرى انتشرت أو أثرت على العالم غير السلع الصينية والحرير، ألا وهي الأديان! في كتابه "أديان طريق الحرير" تحدث ريتشارد فولتز عن الأديان التي انتشرت عبر طرق التجارة، وتحديداً طريق الحرير، بل وأثرت حتى على ديانات منتشرة مثل الإسلام، كما يذكر فولتز مصطلح "أسلمة طريق الحرير" أو The Islamization of The Silk Road ويشير إلى أن التجارة والتجار المسلمين ساعدوا في نشر الإسلام على نطاق أوسع خارج شبه الجزيرة العربية. وفيما يتعلق بعولمة المعلومات يمكن الحديث هنا عن حركة ترجمة الكتب من لغات أخرى إلى العربية في العصر العباسي، عندما انفتح المسلمون على حضارات وأديان أخرى وتأثروا أيضاً بالفلسفة اليونانية.
إذن، هل يمكن القول بأن العولمة ظاهرة قديمة؟
إن كل ما سبق يوضح لنا أن العولمة، بخطوطها العريضة على الأقل، بدأت بالفعل قبل عدة قرون من الثورة الصناعية وانتشرت على نطاق واسع بعدها، ولا ينبغي لنا أن نتجاهل هذه الأمور عندما نتحدث عن ظهور ظاهرة واسعة النطاق مثل العولمة. ففي الوقت الحاضر، أصبحت العولمة في عصرنا قوة لا يمكن حتى مقارنتها بما كانت عليه في الماضي. فنحن نعيش في دول قومية تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، مع ذلك من المرجح جداً أن يجد أحدنا نفسه، على سبيل المثال، يحضر دورة تدريبية عبر الانترنت لأستاذ في أستراليا أو يقرأ ورقة علمية منشورة في أوروبا لطالب صيني و مناقشتها مع زملاء في افريقيا! والعولمة شيء من هذا القبيل، فقط إذا نظرنا إليها بعين واحدة.
دعونا الآن ننظر إلى العولمة بالعين الأخرى أيضاً..
إن العولمة في الواقع أكثر من مجرد انتشار الثقافات، وترابط الشعوب، ووفرة مصادر المعلومات. يرى بعض علماء الاجتماع أن العولمة السياسية تعمل على تغيير شكل العالم الذي نعيش فيه. يقول المفكر الألماني يورجن هابرماس (2001) أننا على أعتاب مرحلة "ما بعد الدول القومية"، حيث تتراجع الدول القومية لصالح مؤسسات أكبر مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والتي تشكل نوعاً من "السلطة فوق الوطنية" وهي القوة التي تخضع لها كل الدول تقريباً. كما يزعم هيرست وتومبسون (1996) أن أحد تأثيرات العولمة هو أنها تجعل الحكومات الوطنية تبدو وكأنها عاجزة في مواجهة الاتجاهات العالمية. وهذا بالطبع يقودنا إلى الحديث عن "الهيمنة" السياسية أيضاً. ووفقاً لباربر(1995)، فإن نوعاً واحداً فقط من الأنظمة السياسية يتزايد في مجتمعات اليوم. فالديمقراطية اليوم تُصوّر باعتبارها الهدف الأسمى الذي يمكن تحقيقه، والنظام السياسي الأكثر صحة. لقد حوّلت هذه الهيمنة العالم إلى حفنة من العميان عن ضحايا الغزو الأمريكي للعراق باسم "نشر الديمقراطية" في الشرق الأوسط، على سبيل المثال. وفي هذا الصدد، هل يمكن الحديث عن حرية التعبير التي تتبناها ما يسمى بالدول الديمقراطية، بينما يتم إسكات الأفواه التي تدافع عن قضايا "غير متناسبة" مع سياسات بعض الدول أو سياسات المنصات الاجتماعية، مثل الفيسبوك، الذي يحظر الوسوم الداعمة للقضية الفلسطينية خلال الحرب على غزة؟ صحيح أن العولمة التكنولوجية ساعدت في سماع الأصوات التي تحاول الحكومات إسكاتها، ولكن لا يزال هناك عامل مهيمن يظهر من وقت لآخر لفرض وجهة نظر أو أيديولوجية معينة. وحتى اقتصادياً، تشكل العولمة علامة فارقة في فرض وإدخال الدول المهيمنة لمنتجاتها إلى دول العالم الثالث أوحتى الاستيلاء على المواد الخام من خلال الهيمنة السياسية والعسكرية والاتفاقيات السياسية بينهما، كشكل جديد للإمبريالية.
من ناحية أخرى، للعولمة آثار مباشرة على الناس أيضًا. إن حقيقة أن الدول القومية في تراجع تعني بالضرورة انخفاض الشعور بالانتماء الوطني بين الناس. إن مفهوم العولمة يقوم على إلغاء الخصوصية؛ بحجة أنه لا يوجد سوى نموذج متفوق واحد تعبر عنه القوى ذات الحضور المهيمن، ويجب أن تتبعه نماذج أخرى حتى تتمكن من الاستمرار حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن هويتها. ومن المهم أيضًا أن نذكر أن هيمنة ثقافة الاستهلاك في العالم، والتي تزامنت مع صعود الرأسمالية، لا تزال تنتج احتياجات جديدة كل يوم.
في الختام، من الواضح أن العولمة ظاهرة قديمة لكن حضورها اليوم أقوى بكثير في عالمنا الحديث. وكما هو الحال مع معظم الظواهر الاجتماعية، فإن لها جوانب ثقافية إيجابية، وجوانب سياسية واقتصادية سلبية أيضاً، ولكن هذه الإيجابيات والسلبيات ليست مطلقة. فقد اعتقد بعض المنظرين الاجتماعيين أن العولمة كانت المرحلة الأخيرة من الرأسمالية أو الإمبريالية التي آلت إلى النهاية، لكن ..هل هي النهاية حقاً؟
المصادر:
Baylis, J & Owens, P & Smith, S (2014). The Globalization and World Politics: An introduction to international relations.(6th Edition). Oxford University Press.Foltz, R (2010). Religions of The Silk Road: Premodern Patterns of Globalizations. (2nd Edition). Palgrave Macmillan. Habermas, J (2001). The Postnational Constellation: Political Essays. (1st Editions). MIT Press.Zerzaihi, Z. (2020). Globalization and Cultural Identity in the New Medai Era. Algerian Scientific Journal Platform. 24(51), 537-549.
العولمة: عالم كبير، قرية صغيرة